روتي حينسكي - أميتاي
سناء فرح - بشارة: صرخةٌ صامتة
تماثيل هيكليّة لنساءٍ مجهولات الهُويّة، تحتار: هل هنّ مُقدِماتٌ على الخطو أم مُتسمّرات في أمكنتهنّ! مشقوقاتٌ مُناصفة، يملأن فضاء صالة العرض بالمنشأة الفنّيّة 48، من صنع يديِ الفنّانة سناء فرح - بشارة. ومن شخصيّة المرأة في هذه المنشأة الفنّيّة نستدلّ على ثورةٍ في طريقة عمل فرح - بشارة على مستوى الشكل التصويريّ.
على امتداد سنواتٍ طِوال تميّزت أعمال فرح - بشارة النحتيّة بتماثيل برونزيّة لنساءٍ مفعمات بالإحساس والكبرياء، حيث تُحاور هذه التماثيل تقاليد النحت التشخيصيّة الكلاسيكيّة، وفي الوقت نفسه تتسلّل لتُعبّر عن واقع حياة الفنّانة الصاخب بالصراعات، كإنسانة، كامرأة، كأمّ، وكفنّانة؛ حيث هي تُراوح في مقاومتها بين الانصياع للمعايير المتعارف عليها وبين العواصف النفسية التي تجتاح عالمها الداخليّ. إنّ إيماءات الجسد التعبيريّة والعمليّات التفكيكيّة التي انتهجتها الفنّانة في عملها جعلت من نسائها المنحوتات كياناتٍ قالبيّة (مُجزّأة وقابلة للتركيب)، لا بل مجوّفة، أحيانًا، حيث توشكُ، في كلّ لحظة، على الانتشار في الحيّز. تماثيل مشحونة بتوتّر داخليّ، تنتقد الفنّانة – من خلاله – الواقع الثقيل الذي تعيش في ظلّه المرأة. لم تحمل الوجوه المجهولة أيّ ملامح تُمكّننا من تصنيفها بوضوح وفق هُويّة اجتماعية، أو ثقافية، أو قومية، ولذلك يمكن لهذه الوجوه المجرّدة أن تعبّر عن أيّ امرأة وفي أيّ مكان.
ومع ذلك، فبنظرةٍ متعمّقة، من الصعب ألّا نرى في عمليّات الجرح المتعمّدة وإيماءات الجسد الرمزيّة العلاقة التي تجمع هذه التماثيل بالسيرة الذاتية والتاريخ الأُسريّ لفرح - بشارة، كابنة لعائلةٍ مسيحيّة وعربيّة وفِلَسطينيّة متأصّلة، عايشت فجيعة 1948 التي تركت آثارها على لحم أفرادها كابرًا عن كابر. النّكبة التي تقوّضت – في أعقابها – النواة العائلية وتمزّق النسيج الاجتماعيّ وهدّدت استقرارهما، فباتت الهُويّة الشخصية أكثر انقسامًا وقلقًا.
المنشأة الفنّيّة 48 هي حلقة أخرى في سلسلة أعمال فرح - بشارة الفنّيّة. وكلّها تؤول إلى أصل واحد، هو تمثال صغير صنعَتْهُ الفنّانة قبل سنوات عدّة، حيث إنّ صورته الاصطلاحية الموجزة، والمتواضعة، والمُخيفة في آنٍ معًا، قد عبّرت عن ألمٍ مكبوتٍ ومُكمّم. لم يخرج هذا العمل النحتيّ من الأستوديو البيتيّ لفرح - بشارة لردحٍ من الزمان، وبقي ماثلًا فيه كحاضرٍ غائب.
إنّ القرار أن ترى، الآن، إلى التماثيل المنشطرة نموذجًا يتناسخ ليس إلّا نتيجة لمحاسبة الذات، ونتيجة عملية داخلية متواصلة، حيث نضجتا لتصبحا مقولة واضحة ورسالة صريحة تنصّ عدم التنكّر للألم الممتدّ والعميق بعد اليوم، وتتّخذ خطوة جريئة بتنصيب هذه التماثيل في مركَز المسكوت عنه، ومركَز كلّ ما يُرهبنا ويدعونا إلى الاستتار والاختباء، وذلك لأنّ هذه التماثيل تُجسّد شخصيّاتٍ نسائيّةً فقدت ملامحها الجسديّة الأنوثيّة والجنسيّة، لتصبح أشباحًا مثقلة بالفجيعة. مقاساتهنّ الصغيرة تُحيلنا إلى تلك التماثيل البيتيّة الحميمة والمخصّصة لغرض العبادة، أو تلك القابلة للنقل والترحيل من مكان إلى آخر. وبهذا يتعاظم الإحساس بالاجتثاث والاقتلاع والنبذ المُنبعث من فضاء صالة العرض المُجهّز، حين تكون المرأة حمّالةً لفجيعةٍ كالنكبة، متنقّلةً من جيل إلى جيل، كشبحٍ لا يستطيع التحرّر، كشهادة وكذاكرة.
في أعمال فرح - بشارة تُنسَج وتُضفر تجليّات الألم والفقدان والحزن، التي تعود – في مرجعيّتها – إلى منظومة الرموز والأيقونات النصرانيّة، على شاكلة الصلب، الـﭙـييتا (تمثال السيّدة العذراء وجثمان السيّد المسيح) أو ماريا والمسيح طفلًا. هذه التجسيدات والتصويرات المتأصّلة في جذور الهُويّة الثقافيّة والدينيّة للفنّانة تعبّر عنها دواخلها وتنبعث من مكنونات نفسها، كما يتجلّى ذلك في تمثال الصلب، القابع مكانه مُنشطرًا إلى نصفين، فاغرًا فاهُ ومُصابًا بالجراح في فضاء صالة العرض، كصرخةٍ صامتة.