top of page
 ي. مـتسـكل 

 كشفٌ وتقَصٍّ للعالم الفنيّ لدى سناء فرح- بشارة                                             
 

 إن التماثيل التي تُبدعها الفنانة سناء فرح- بشارة، تُعبّر عن قوّة  تقاليد النحت الماديّ والكلاسيكي. إلاّ أنه، على ما يبدو، فقط، ينعقد حوار مع التقاليد العائدة إلى مئات السنين من النحت التصويريّ. وبنظرة ثانية أو ثالثة، يتجلّى لعينَي المشاهد تعاطٍ آخر ومتميّز مع المادة، كما أن اللغة الفنية قد تكون مُوقِعة بأسلوب سبر غور الأعمال الإبداعية الثلاثية الأبعاد.
 كفنانة ملتزمة لإبداعها، تنشغل سناء بشخصية المرأة العصرية. إن وجهة نظرها نحو الحياة مغروسة، حقًّا، وبعمق في أعمالها الإبداعية. فتعبّر الفنانة عن صراع المرأة المعاصرة الدائم، حيث إنها، من جهة، تصبو إلى الكمال، ومن جهة أخرى، مقيّدة بقدرتها العملية للوصول إلى المرغوب فيه، وعليها الاكتفاء بالموجود. هذا الوضع هو نتاج الالتزامات الجَمّة المُلقاة على كاهل المرأة، وظائف مُضايِقة ومتطلِّبة. إنه صراع يوميّ بين وظائف المرأة الكثيرة، مثل سناء نفسها، كامرأة مُبدعة، تعمل وتعتاش، صاحبة مهنة، أمّ ومربية، زوجة، سيّدة مجتمع، أمّ وأخت، وكامرأة منخرطة ومستقلة التفكير. تؤكّد سناء على أن الصراع الحاصل بين الرغبة في الكمال وبين الواقع يؤدّي، بالضرورة، أيضًا، إلى أخطاء وإلى انحراف عن المعيار السائد: "هناك صراع ناتج عن تعدّد الوظائف الملقاة على كاهل المرأة والتي يتوقّعها منها المجتمع المحيط بها. إن هذا الصراع يصطدم، أحيانًا، برغبتها وطموحها في خلق مستقبل أفضل من أجلها، من أجل أولادها وعائلتها". إن الفنانة عن طريق تماثيلها تدعو المشاهدين إلى محاولة التوصّل إلى موقف من التماهي مع عالم النساء المركّب. 
 ينبعث من شخصية سناء فرح- بشارة نفسها، قوّة وجمال أنثويّ، وهما صفات وميزات موجودة في تماثيلها كلّها.
 إن شخصية المرأة المنتقلة كفكرة محورية في تماثيل سناء هي شخصية المرأة الكونية. وهذه الشخصية هي، عمليًّا، عبارة عن رمز. إن وجوه النساء في شتّى التماثيل مخفيّة، مُخبّأة أو مطوَّقة. ليس لهؤلاء النساء قَسَمات وجه، إنما خطوط أنثوية عامة. وإنهنّ غير حزينات، كما أنهنّ غير فرحات. هنّ لا يبكين ولا يضحكن. لا نعرف ما إذا كانت نساؤها شابّات أو مُتقدمات في السن. هناك تنازلٌ مسبق، نابع من قرار بالنسبة لتعابير الوجه الأنثويّ. إلاّ أن حركة جسد هؤلاء النساء دائمًا ما تقود وتشدّ نحو الأعلى.  
 إن العملية الإبداعية لدى سناء فرح- بشارة تبدأ بالمادة، بالطين. وإن المرحلة التي تُبدع فيها الشخصية هي ذات أهمية كبيرة في عملية الإبداع: "أنا أحبّ المادة جدًّا. حرارتها تؤثّر فيّ. إنه ليس لونها، فقط، لون التربة، الحاضن والذي يُعطي الإحساس بالانتماء، وبمصدر الحياة. بل إن التربة في نظري هي سياق للخصوبة والأمومة. ويصاحب ذلك كلّه الإحساس بالدفء المنطلق منها، والذي يخلق عندي الارتباط الكامل بها. إنه نوع من التماهي". 
أما المرحلة القادمة، التي تشمل معالجة المادة والصبّ بالبرونز، فتولّد التوتّر الذي تبحث عنه الفنانة. 
سناء 'تلعب' بالمادة وتمنحها بُعدًا آخرَ يُنشئ توتّرًا خارجيًّا. وهي تميّز بين المادة الناعمة الملمس وبين تلك الخشنة. إنها تُبدع الخشونة بنفس القدرالذي تُبدع به الملمس الحريريّ، الذي يعكس الأنوثة الناعمة. الملمس الناعم أمام ذلك النّديب. النعومة مقابل القوّة.  
 إن نظرة سناء ووجهة نظرها نحو الحياة، الفنية أيضًا، في ما يتعلق بمكانة المرأة العصرية، تميّز الثنائية الحادة القائمة بين المرأة التي تنشط في الداخل، في داخل بيتها هي، وبين تلك المرأة الناشطة في الخارج، في العالم الواقع خارج البيت. إن هذه الثنائية الحادة نفسها تنعكس في أسلوب تعاطيها مع المادة، وفي خلق التوتّرات القائمة في البرونز وفي الشكل على السواء. 
إن الصراع بين الداخلي والخارجي ينعكس في إبداع شخصيات مفكّكة، مكسّرة، تبني الكامل. إنه صراع بين المشاعر والتجارب الداخلية لدى المرأة الكونية التي تُبدعها سناء، وبين ما ينبعث نحو الخارج. وهي تبحث عن تعبير صوريّ كامل تقريبًا يجسّد تعبيرًا ملموسًا لعالم المرأة الداخلي بحثٌ عن الميتافيزيقي.
 "في تماثيل النساء أعكسُ التوتّر القائم بين نعومة المرأة وبين قوّتها الروحانية والشخصية،" تقول سناء. "إن هذا التوتّر هو الذي ولّد تركيبيّة تماثيلي".
 توجد في تماثيل سناء المتأخرة كلّها، ثلاثة عناصر فنية: تتحرّك التماثيل حول محور مركزي من خلال خلق ما يشبه اللولب الدائريّ الذي يتحرّك، دائمًا، نحو الأعلى، وفيها حركة وانسياب يعبّران عن نوع من الغرائزية المتواصلة التي تجذب جسد المرأة الماديّ نحو الأعلى. إن هذه العناصر تعبّر عن التوتّر الذي تغرسه في البرونز. وتبرز خصوصًا الحركيّة في تعاطي الفنانة مع تماثيلها التي تتناول الرقص، كرقص الـ'فلامنكو' ورقص الـ'تانجو'. "عندما أعمل في الأستوديو أصغي إلى الموسيقى. فالموسيقى تؤثّر في مزاج المرء وتأخذني أنا، أيضًا، إلى الإيقاعات".
 إن انسياب وحيوية الجسدِ المنشدّ نحو الأعلى يجدان تعبيرا قويًّا في الجزء العلوي من الجسد الأنثويّ – العُنُق. فعُنُق النساء في تماثيلها عضو حيويّ ورئيسيّ يحظى بالتِفات بالغ. العُنُق كمكان لمجرى الهواء، لإسماع الصوت، ولبدء عملية البلع. يمرّ العنُق معالجة بيديّ الفنانة، فهي تؤكّد على حركته. حركة ترمز هي أيضًا نحو الأعلى. 
 من المهم لسناء أن تلزم حركية التمثال المشاهدَ، أيضًا، أن يدوّره وأن يحاول سبر غور الشخصية الماثلة أمامه داخل المادة: "من المهمّ لديّ أن يعيش المشاهد تجربة الحركة والانسياب الكامنيْن والمكنوزيْن داخل التمثال".
 العنصر الآخر هو فعل التفكيك الذي يؤلّف الكامل. فهو، أيضًا، يرمز، مرّة أخرى، إلى الثنائية الحادة وإلى الوجوه المختلفة التي يتوجّب على المرأة ارتداءها ضمن محاولتها الاندماج والتحرّك بين أجزائه، وكذلك إلى إلحاح عالمها الداخلي والخارجي. تدّعي الفنانة بإصرار أن نساءها ناجمات عن الاشتغال بموضوع المرأة ولسنَ تقليدًا للواقع. إن الشروخ والتفكيك في أعمالها الإبداعية وتماثيلها قائمة وتشكّل تعبيرًا عن الشروخ المفغورة في مجتمعنا الذي نعيش فيه اليوم. ليس هناك كمال مثاليّ لشخصية المرأة، مثلما أنه ليس هناك كمال كهذا في حياتها. إنه، دائمًا، الواقع مقابل الحُلم. غير أن الحُلم موجود طيلة الوقت، ويجب ألاّ نتجاهل الطموح الدائم لِرَتْق الشروخ وللوصول إلى الْتِئام وتحقّق كليين. هكذا، أيضًا، التحوّل الصوريّ وإمكانية خلق تشكيلة واسعة من التغيّرات في نمط اختيار وضعية التمثال. إن تركيبية التماثيل تُتيح لسناء البحث والعثور، كلّ مرّة من جديد، على الشخصية وعلى الوضعية الجديرة بها والتي تخدم مزاجها. التفكيك في مقابل التركيب. سناء تُجري حوارًا مع تاريخ الفن وتتطرّق بلغتها الفنية إلى التكعيبية المتأخرة.
 إن الفضاءات المفغورة في المادة وانسياب الهواء بين أجزائها، وهي فضاءات مبنية إلى داخل الأشكال التي في التمثال، هي عنصر آخر ورئيسي في الأعمال الفنيّة لدى سناء فرح- بشارة. وهي تميّز غالبية تماثيل الفنانة، وتعبّر عن طريق الاستعارة والمجاز عن إرادة وانفتاح المرأة الكونية على العالم. نحن نعيش، اليوم، في عالم مفتوح، تنساب فيه المعلومات بسهولة من طرف العالم ذاك إلى طرفه هناك، عن طريق أية وسيلة إعلام ممكنة. العالم، بشتّى أجزائه التي تكوّنه، بات في متناول اليد أكثر. كما أن سهولة التنقّل من مكان إلى مكان في أرجاء العالم تؤثّر في الأسلوب الذي نستوعبه به. وعليه، فإن مكانة الفضاء والهواء المنساب بين أجزاء التمثال المختلفة، على قدْر من الأهمية، توازي أهمية المادة نفسها. إن أهمية الفضاء لا تقلّ عن أهمية البرونز، المادة والشكل. إنه جزء جوهري في التماثيل. بوسعنا أن نرى إلى الفضاءات القائمة في التماثيل كدعوة لصبوّ المرأة الدائم إلى الداخليّ والروحانيّ، أو حتى إلى الميتافيزيقيّ.
 ترى سناء في نفسها كمَن تتأمّل العالم المحيط بها، فتعبّر بأعمالها الإبداعية عن ترجمتها لما تراه عيناها ولما تضطلع به من تجارب: "لست شخصًا سياسيًّا. إن توجّهي إلى الفنّ منزوع القوميّة، اللون، الدين أو الحدود. فالفنّ، في نظري، يُفترض أن يمثّل أسلوبا تأمّليا للعالم، تأمّل إنسان حسّاس".

bottom of page